أوروبا تمتلك القدرة على إعادة ضبط السياسة العالمية
بدأ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالفعل في إعادة هيكلة ضخمة للحكومة الفيدرالية، إذ عيّن وزراء من صقور السياسة تجاه الصين والمشككين في حلف شمال الأطلسي، وهذا يشير إلى أن أميركا مهتمة بتسوية الحسابات أكثر من الحفاظ على التحالفات، ومع إصرار واشنطن على التعامل مع الأصدقاء مثل كندا، والمنافسين مثل الصين، بمقادير متساوية من العداء، يواجه الاتحاد الأوروبي ما يعد حقاً فرصة حقيقية لا تعوض، وتتمثل في الارتقاء كفاعل مستقل، ليس فقط في الدفاع عن كيانه، ولكن كوسيط بين اثنتين من أكثر القوى العظمى غضباً في العالم.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي عادة ما يكون أكثر راحة مع سياساتها، فإن هذه اللحظة تتطلب شيئاً مختلفاً بشكل جذري، لقد أمضت أوروبا عقوداً في إتقان «فن التحوط الدبلوماسي»، والاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية، في حين تسعى إلى التجارة المربحة مع الصين، لكن يبدو أن هذا الترتيب المريح قد انتهى، وفي هذه الأزمة تكمن الفرصة، وهي فرصة لأوروبا للتحول من عضو حذر في «جوقة» إلى قائد لحفل موسيقي عالمي جديد.
الزعامة العالمية
وسمح التحالف عبر الأطلسي، الذي تشكل في الحرب العالمية الثانية وخفف من حدته خلال الحرب الباردة، لأوروبا بالحفاظ على شكل غريب من «المراهقة الاستراتيجية»، وعلى سبيل المثال في عام 1995، تحت المظلة النووية الأميركية، أمضى الاتحاد الأوروبي وقتاً أطول في مناقشة مسائل ثانوية، على حساب قضايا مثل قدراته الدفاعية.
وأوضح ازدراء ترامب المسرحي لحلف شمال الأطلسي وحماسه للرسوم الجمركية، شيئاً واحداً، أن صبر أميركا على تمويل الأمن الأوروبي قد انتهى، في وقت يواصل الأوروبيون، العمل كالمعتاد مع بكين، وتأتي هذه الصحوة في لحظة حرجة.
ومع المشاحنات بين واشنطن وبكين وعمل «الساسة» في واشنطن بلا كلل لتنفيذ أجندتهم الحزبية، تجد أوروبا نفسها في موقف قوي بشكل غير متوقع، وفي حين تنحدر الدبلوماسية الأميركية إلى مواجهات مسرحية واستعراض إعلامي، تجد الصين نفسها تتلاعب بحقائق غير مريحة على نحو متزايد، فحدودها الشمالية تشهد تسليح كوريا الشمالية لروسيا، وتُظهِر شراكتها «بلا حدود» مع موسكو، قيوداً واضحة، ويثبت وصولها إلى الأسواق الأوروبية أنه محفوف بالمخاطر على نحو متزايد.
القوة الحقيقية
والعواقب الأخلاقية لهذا الواقع الجديد مفتوحة للنقاش، لكن الضرورة السياسية واضحة، إذ يجب على أوروبا أن تضاعف جهودها في الدفاع واستقلالها، ولم تكن القوة الحقيقية لأوروبا، في حاملات الطائرات أو الأسلحة الأكثر تقدماً، بل في قدرتها على تشكيل المعايير والتطلعات العالمية.
وفي حين تتحدث واشنطن عن تنظيم شركات التكنولوجيا الكبرى، وتستوعبها بكين ببساطة في جهاز الدولة، نجح الاتحاد الأوروبي بشكل مدهش، أفضل من القوتين العظميين، ولم تكتفِ اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي بحماية الخصوصية الأوروبية، بل أصبحت معياراً عالمياً، بحكم الأمر الواقع، ما يثبت أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه فقط فرض وإزعاج وادي السيليكون، بل إعادة تشكيل ممارسات الأعمال العالمية.
ولنتأمل هنا اقتصاد القوة، فالاقتصاد الموحد للاتحاد الأوروبي الذي يبلغ حجمه 19.
4 تريليون دولار، ينافس الاقتصاد الأميركي، و«اليورو» هو العملة الاحتياطية الثانية في العالم، في حين تتدفق الاستثمارات الأوروبية إلى الخارج بقوة.
ويتحكم الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي في «سدس» الاقتصاد العالمي، وتعمل الشركات المتعددة الجنسيات الأوروبية – مثل «إل في إم إتش» التي حققت 45.
6 مليار دولار من العائدات في النصف الأول من عام 2024، وبنك «بي إن بي باريبا» الذي يدير 80 مليار دولار في آسيا وحدها – سفيرةً للنفوذ، ونسج شبكة من الشراكة، من باريس إلى شنغهاي.
وعندما تصدر بروكسل مراسيمها التنظيمية، يمتثل لها عمالقة وادي السيليكون ومليارديرات بكين، ليس من منطلق أي شغف خاص بالقيم الأوروبية، لكن من باب الاحترام للواقع المتمثّل في القوة الاقتصادية الأوروبية.
وتتحد هذه «الدبلوماسية التنظيمية» مع «المغناطيسية الثقافية» الأوروبية، وأي شخص حظيَّ بمتعة زيارة أوروبا، يعرف إلى حد ما أن القارة التي أعطت العالم عصر النهضة، لاتزال تحدد التطور العالمي.
ومن بيوت الأزياء في باريس، إلى معاهد البحوث البريطانية، وكروم العنب الإيطالية، واستوديوهات التصميم في دول الشمال الأوروبي، تشكل أوروبا الكيفية التي يفكر بها العالم، ويتدفق نصف سياح العالم إلى المدن الأوروبية، ليس فقط لالتقاط صور أمام «برج إيفل»، لكن لتجربة واستيعاب أسلوب حياة قديم، لا يمكن للاستهلاك الأميركي، ولا الصين، توفيره، ما يمنح الاتحاد الأوروبي ثقلاً معيناً، لا يوجد في الكتل الأخرى.
نموذج جديد
بالنسبة للاقتصادات النامية، يمكن للاتحاد الأوروبي الصاعد، أن يقدم شيئاً ثميناً على نحو متزايد وهو «طريق ثالث حقيقي»، وفي حين تطالب واشنطن وبكين بالولاء بدرجات متفاوتة، يمكن للاتحاد الأوروبي الموحد أن يقدم شيئاً أكثر جاذبية، وهو «شراكة حقيقية قائمة على المنطق والحس السليم».
وقد تجد دول «رابطة دول جنوب شرق آسيا»، في الاتحاد الأوروبي، ليس مجرد نموذج للدراسة، بل مخططاً للحفاظ على السيادة، مع بناء القوة الجماعية.
ويمكن لأعضاء الاتحاد الإفريقي، بدلاً من إجبارهم على الاختيار بين الوعود الأميركية والبنية الأساسية الصينية، النظر إلى معايير وممارسات الاتحاد الأوروبي كنماذج للتنمية المستدامة المستقلة.
ويمكن لدول أميركا اللاتينية، التي وقعت بين واشنطن وبكين، أن تجد في اقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا مساراً أكثر توازناً نحو الرخاء.
وإذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي التغلب على انقساماته الداخلية وتبسيط عملياته البيروقراطية، فإن «تأثير بروكسل» لن يكون في ممارسات الأعمال العالمية فحسب، بل إنه سيوفر للقوى الناشئة وسيلة للتطور والازدهار، من دون أن تصبح «بيادق» في لعبة شخص آخر.
وقد تصبح أوروبا الموحدة شيئاً رائعاً حقاً، ليس فقط كقوة تنظيمية عظمى، بل وأيضاً كثقل موازن لسياسات القوى العظمى، ما يُظهر كيف يمكن للتعاون الإقليمي أن ينتصر على الهيمنة والإكراه.
عن «ناشيونال إنترست»
نقاط الضعف
الأخبار العالمية و المحلية، الاقتصاد، تكنولوجيا ، فن، أخبار الرياضة، منوعات و سياحة.